المعتزلة ثورة في الفكر الاسلامي الحر
إن المحاولات القديمة والحديثة، في كتابة تاريخ المعتزلة، كانت بعيدة عن مسار الإعتزال التاريخي، وعلاقته بالمدن التي ظهر في أجوائها. فالإسلام كان في كل مكان، ولكن لماذا يظهر المعتزلة وإخوان الصفا وغيرهم من التيارات الفكرية بحاضرتي العراق، البصرة وبغداد، دون غيرها من المدن؟ والإجابة عن هذا التساؤل هو أن الطريقة التي كتب بها تاريخ المعتزلة والفرق الفكرية وتاريخ الفسلفة بشكل عام، التي سجلت عربية إسلامية فقط، هي نفس الطريقة التي كتب فيها تاريخ المدن والحواضر العراقية، ولعل هذا التعامل كان أخف بالنسبة لمدن الآفاق الأخرى مثل إيران وبلدان ما وراء النهر ومصر وغيرها. فبغداد نسبت إلى أبي جعفر المنصور، والبصرة نسبت إلى عتبة بن غزوان، والكوفة نسبت إلى سعد بن أبي وقاص، وكل الذي عمله هؤلاء كان بناء مسجد ومعكسر لمواصلة الفتح، بصخورة الزقورات والمعابد والسدود القديمة. فقد نبش الآثار العباسية ببغداد ووجد آجرها مزيناً بخطوط بابلية وآشورية وحتى طاق كسرى حمل له آجر وصخور بابل ونينوى. ظهرت دعوى المعتزلة في أجواء عراقية، وكانت البداية ببصرة، ثم تأسس فرع لهم ببغداد، في بداية القرن السابع عشر الميلادي (أو الثاني الهجري) على يد بشر بن المعتمر. أما تسمينهم بالمعتزلة فقد وردت من قبل الخصوم، لكنهم وافقوا عليها وباركوها. وضع المعتزلة أساساً قوية لظهور فلسفة مصدرها الإسلام، وخلفية العراق الفكرية التي تمتد إلى عشرات القرون. ولا شك أن المعتزلة تأثروا بفلسفات من مثل الفلسفة الأفلاطونية والأرسطية، وبعض مما وصل من فلسفات الهند، وكذلك في الفلسفة الإيرانية القديمة، التي كثيراً ما ناظر المعتزلة أقطابها. ترك المعتزلة تراثاً فكرياً لا يتحدد بما نقلته كتبهم أو ما نقله الآخرون عنهم فقط، بل يتحدد أيضاً في إمتداد أفكارهم وصلاحيتها لعصور آتية، كونهم وصفوا العقل وسيطاً بين السماء والبشر، وجعلوه في مقدمة الأصول الأخرى. وعندما يجري التلويح بالنصوص كثوابت في تحديد علاقات الناس عند المنحدرات الحادة، التي تعترض طريق الإبداع بحضر الفكر المعتزلي كشاهد على تاريخ الرفض والمقاومة، ومن داخل المؤسسة الفقهية. فكان شيوخ الإعتزال من الفقهاء المتكلمين والفلاسفة، وبالتالي تبدو عبارة سفيان الثوري، الفقيه الحنفي القريب من الإعتزال "إنما الفقه، خصة مع الثقة، أما التشدد فيحسنه كل أحد"، طرية حاضرة في الأذهان... وحول ما جاء في الإعتزال وفكر. يأتي هذا الكتاب الذي يضم دراسة لعشرين ونيف من نقاة القدر والصفات والقائلين بخلق القرآن من غير المعزلة ومن شيوخ الإعتزال البارزين. كان في مقدمة هذه الشخصيات الفقيه البصري، الذي لا تربطه رابطة الإعتزال، كما يشاع عنه ذلك، سوى أن مؤسسي الإعتزال واصل بن عطاء الغزال، وعمرو بن عبيد كانا من مرتادي مجلسه في مسجد البصرة، ولعل بحث تفاصيل حياته يكشف عن ظروف الحركة الفكرية والكلامية آنذاك، ويكشف أيضاً موقفه وفقهاء عصره من الإعتزال. أما الإمام أبو حنيفة النعمان، والمقولون الأربعة: الجعد بن درهم ومعهبد الجهني وجهم بن صفوان وغيلان الدمشقي، فأمرهم له صلة بمقدمات ظهور الإعتزال الفكرية، فهؤلاء تبنوا تلك الأفكار بدرجات مختلفة من الوعي والمساهمة، إلا أن الكتاب لم يستوعب مفكري الإعتزال من بصريين وبغداديين كافة. وإنما كان الإكتفاء بهذا القدر من مفكري المعتزلة.
لا يوجد مراجعات