جمهورية القرد الأحمر
"هو أينما كان، لم يختلف كثيراً عن الآخرين، بل كانوا مثله، ولكن لم يكن أحد ليعرف لماذا كان هو الأكثر معاناة؟ لماذا هو الذي جنّ جنونه ومات؟!... كانون الثاني/ يناير يتطوح ثقيلاً كأنه لا يمر من دروب الأيام.
قبل الذكرى الأولى للثورة بأسبوعين وفي العاشر من كانون الثاني / يناير 2012 دوى الخبر في كل مكان، لقد مات مروان ناجي، صُفع الباب الثقيل فوق ما كان، وأنطفأت الومضات التي كانت تضوي هناك في البعيد، انسدّ الأفق الذي كان يطلّ منه على الساحات، وعاد من حيث بدا معتزلاً الصراع والأحداث.
هناك سقط كأنه الزمن حفر له أخدوداً خفيّاً ليس له قاع، ياسين السحرتي يجول في ذاته ولا يخرج منها، حبيس المذكرات وأحزان الحداد، لم يكن الاول من كانون الأول/ ديسمبر 2011 يعني شيئاً له، ولكنه كان صدمة للآخرين، كان ذلك اليوم الذي وقف ياسين في مقر الجبهة وأعلن إستقالته من الجبهة.
الخبر وقع كالصدمة على رؤوس الرفاق، بعضهم لم يعلق وبعضهم اعتبرها خيانة كبرى في وقت عصيب، كانوا وقتها متجهين إلى الإعتصام أمام مجلس الوزراء والبلد تفور بالأحداث، عدّ قليلاً للوراء، بضعة ليال.
هناك وقف في شارع محمد محمود على رأس المشهد وأطل، انتهى بلا رجعة، حسم قراره ولم يجد شيئاً يبقى من أجله، لم يجد ما يفعله للفتى المندفع بالحجر، تركه لهدير المجهول، تركه حيث الفخ المنصوب، تاه منه في ظلمة الشارع الدموي، لم يثنيه الشبح الأخير الواقف وسط الضباب عندما مضى متراجعاً، كان الشبح الهزيل يقف على الناحية عندما فرغ ياسين من أحلامه.
هذا هو اليوم الذي غيّر كل شيء، كانت آخر مرة يراه فيها واقفاً على قدميه، كانت آخر مرة يتحدث إليه، مروان كان يضعف في الشهور الأخيرة من حياته، استسلم للمرضى ونمت لحيته وصار قليل الحديث، منذ إنقسام الجبهة في تموز، يوليو وهو شارد الذهن، في آب/ أغسطس أخرجوه من معركة فضّ الإعتصام الأولى وهو يتلوى ويصرخ، أبعدوه عندما كانوا هم يتلقون ضرب الهراوات على ظهورهم، أحسّ بالخيبة والضعف وأنه بلا حول أو قوة بين رفاقه الثوار.
وفي الشهر التالي حدث شيء ما لا يعرفه أحد شيء ما غريب، اختفى مروان على أثره لأسابيع ثم عاد غامضاً وكأنه شبح، ذلك الشبح الأخير الذي قابل ياسين السحرتي على ناصية شارع الفلكي المؤدي لمحمد حمود، يقف وحده كأنه على حافة نهاية العالم؛ في تشرين الثاني/ نوفمبر، وقف مروان الناجي أمام ياسين السحرتي وأمامهما المعركة.
هاك دوى كل شيء بعنف وهوت الأحلام كأنها مدن من رماد، الصديقان اللذان تنازعا في الرمق الأخير من الحلم، لم ينم ياسين لأيام بعد هذا اللقاء، صدره كان يحترق بلا توقف، ذهب بعدها إلى بيت مروان في المنيل ولكن مروان لم يفتح الباب ولم يجب... في الأول من كانون الأولى، ديسمبر ذهب ياسين إلى مقر الجبهة بوسط البلد وأعلن على الملأ إنسحابه منها، بعدها مضى مجدداً إلى منزل مروان وقد عقد العزم على أن لا يتركه، شيء ما في داخله كان يقول له، صدقيك يموت، كسر الباب واندفع إلى الداخل، كان مروان جالساً على كرسيه يتطلع نحو الفراغ، عيناه قصة غائرة تنزف دون أن تنطق بشيء، حمله إلى المستشفى ومنها إلى غرفة العناية المركزة حيث تجمهر حوله الأطباء يتفحصونه، رافضاً للطعام وللكلام وعيناه تنظران إلى ياسين يعاتبانه بأس مدير لا يطاق.
حاول ياسين طويلاً معه وحاول الأطباء، ولكن لم يكن أحد ليردع الموت الذي توغل في خلايا هذا الجسد الهش الضعيف، الحياة عندما تجفّ ينابيعها، تحيط قشرتها الصلبة بكل شيء، صمت مروان يقف على الأعتاب ولا يترك أحداً يمرّ، في ليلة ممطرة من ليالي كانون الثاني/ يناير، مات مروان الناصي".
كان اللقاء الأول بينهما في ليلة الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير عندما حشرا سوياً مع العشرات من الشباب في زنزانة محكمة الجلاء الصغيرة، كانا شبه ملتصقين في الحيز الضئيل يستنشقان سوياً هراء قليلاً لا يكاد يكفي، من يومها لم يفترقا، كان قد تم القبض عليهما من أمام دار القضاء العالي في عشية اليوم الأول للثورة... أمضيا الوقت داخل الزنزانة متلاصقين وكأنهما تربيا سوياً، وأفنيا العر سوياً...
"وتمضي قصتهما معاً... هي القصة السجينة ووقع الأشياء التي لا تنسى، فالقصص التي لم تروَ هي وحدها القصص التي لها نهايات، أما القصص التي تروى فهي التي لا تموت وليس لها نهايات، وكلما حكيت عادت أحداثها لتعيش حياة جديدة في مخيلة آخرين جدد.
القصص التي تحكى تعيش عمرها وتمر من أبوابها الأزمان، تفتح دروب الخيال في الأذهان، ويراها كل مارٍّ بها بعين ذاته، فيطرح تساؤلاته ويصوغها كما مضت به...
لا يوجد مراجعات