الصحافة العراقية في المنفى
فائق بطي هو من الشخصيات السياسية والإعلامية العراقية البارزة، سار على خطى والده روفائيل بطي صاحب صحيفة «البلاد» التي اشتهرت في العراق إبان العهد الملكي وآلت.
فيما بعد، إلى الابن فائق الذي ترك بصمة لا تمحى في مضمار الصحافة في هذا البلد، فإضافة إلى هوسه بالمقال الصحافي استطاع أن يوثق لتاريخ الصحافة العراقية وأبرز أعلامها، وأهم محطاتها، وذلك عبر مجموعة من الكتب منها:
«الصحافة العراقية ـ ميلادها وتطورها»، «قضايا صحافية»، «صحافة العراق ـ تاريخها وكفاح أجيالها»، «أعلام في صحافة العراق»، «الموسوعة الصحافية العراقية»، «الصحافة اليسارية في العراق» وسواها، فضلاً عن كتب تناولت قضايا أخرى مثل كتاب «أبي»، و«الخيانة الكبرى»، وهو في كتابه الجديد يواصل التوثيق لصحافة العراق، وهذه المرة للصحافة العراقية التي صدرت في المنفى.
حين شدد النظام القمعي في العراق قبضته على كل من يخالفه الرأي، بعد تثبيت أركان الحكم، ووصول صدام حسين إلى سدة الرئاسة في نهاية السبعينات، لم يجد المثقف والفنان والصحافي العراقي من سبيل أمامه سوى الهرب إلى المنافي القريبة والبعيدة، أو التزام الصمت في بلده طالما يملك رأياً مخالفاً يدرك مقدار العقوبة التي ستقع عليه لمجرد التفوّه به.
وهكذا بدأ قطار المنافي بالسير من بغداد متوجهاً إلى كل محطات العالم في لندن وسيدني، وباريس والقاهرة، ودمشق وواشنطن... وغيرها من عواصم العالم ومدنه التي راحت تستقبل أسراب المنفيين العراقيين على مدى أكثر من ثلاثة عقود، الهاربين من بطش النظام، واستبداده، وهم يحملون بين الضلوع حلماً أبدياً، بمعانقة عراق يتسع لهمومهم وآمالهم، وأفكارهم، وعشقهم...
وحين سدت نوافذ الأمل، وملّوا الانتظار على أرصفة المطارات والموانئ وأمام أبواب السفارات راح هؤلاء يصوغون ما يعتمل في دواخلهم من القهر والحنين والشوق، بالأغنية والقصيدة واللوحة التشكيلية والمسرح، وكذلك بالصحافة التي أذنت بميلاد صحافة عراقية في بلاد الاغتراب، وهو الموضوع الذي يتناوله فائق بطي في كتابه الجديد، الصادر للتو عن دار المدى بدمشق، «الصحافة العراقية في المنفى».
في الحديث عن صحافة الأحزاب السياسية التي صدرت في المنفى، يستعرض الباحث جانباً من تاريخ الصحافة العراقية ذات التقاليد العريقة، فقد ظهرت أول صحيفة عراقية وهي «الزوراء» عام 1869م إثر تعيين الوالي العثماني مدحت باشا والياً على بغداد.
ومنذ ذلك التاريخ اجتهدت الصحافة العراقية لأن تكون صوتاً وطنياً يدافع عن قضايا الشعب العراقي أثناء الانتصارات، وكذلك الهزائم، وهي مرت بمحطات مشرفة مثل الكفاح من أجل الاستقلال، ومواكبة تطورات ثورة العشرين ضد الإنجليز في الفرات، ثم أسهمت في تأسيس الحكم الأهلي، وانبثاق الحياة الحزبية بين الحربين العالميتين.
وعقب الحرب العالمية الثانية اشتدت المعارك السياسية على صفحات الصحف بين المعارضة والحكومات المتعاقبة، وقد عاشت الصحافة في هذه المرحلة أجواء من الحرية النسبية، وكذلك في الخمسينات في أعقاب تشكيل فاضل الجمالي وزارته الأولى، واستمرت الصحافة تصدر في مناخ تعددي بعد السنوات الأولى لثورة 14 يوليو 1958م.
ويشير الباحث إلى أن الصحافة الكردية، بدورها، نشطت في تلك الأجواء فأصدرت جمعية (هيوا) مجلة شهرية باسم (روزا كرد ـ اليوم الكردي) في العام 1912م، ومجلة (بانك كرد ـ النداء الكردي) عام 1914م، واستمرت هذه المجلة في الصدور بثلاث لغات من عام 1922م إلى عام 1926 في مدينة السليمانية.
وصدرت جريدة (بانكي حق ـ صوت الحق) في كردستان العراق باسم قيادة الثورة الكردية بقيادة محمود الحفيد آنذاك، ومع انطلاقة الصحافة العراقية بعد انتصار ثورة يوليو تمتع الصحافيون الأكراد بحرية مماثلة في إصدار صحفهم الخاصة في بغداد ومدن كردستان العراق مثل صحيفة (رزكاري ـ الاستقلال)، و(نوروز ـ الجديد)، و(ازادي ـ الحرية)، و(صوت الأكراد)، بينما أصدر الحزب الديمقراطي الكردستاني جريدتها المعروفة (خه بات ـ النضال) المستمرة حتى هذه اللحظة مع انقطاعات في فترات معينة تبعاً للظروف السياسية.
هذا التاريخ الصحافي الطويل هو الذي مهد الطريق أمام ظهور صحافة المنفى التي بدأت في لندن حيث صدرت أوائل الثمانينات جريدة «الناصرية» لرئيس تحريرها محمد عبدالحكم دياب، وصدرت كذلك في لندن صحيفة «التيار»، لمدة سنة واحدة، وهي أسبوعية رأس تحريرها سامي فرج علي الذي ترأس تحرير صحيفة أخرى هي «المسار».
وفي موازاة ذلك فإن الأحزاب السياسية بأطيافها المختلفة: الديمقراطية، الإسلامية، الكردية، القومية العربية، واليسارية الماركسية.. استمرت في إصدار صحافتها، ومن أقدم هذه الأحزاب، الحزب الشيوعي العراقي الذي أصدر أول جريدة مركزية سرية له في العام 1935م باسم «كفاح الشعب»، ثم جريدة «الشرارة» وبعدها «القاعدة» ثم «اتحاد الشعب».
وفي العام 1964 أصدر الحزب صحيفة «طريق الشعب»، التي لا تزال تصدر حتى الآن، أما في المنفى فقد أسس الحزب جريدة «عراق الغد» في لندن عام 1986م، وقد كتب ناشروها في صدر صفحتها الأولى بأنها «صحيفة وطنية ديمقراطية، من أجل عراق السلام والديمقراطية»، ثم أصدر الحزب عقب مؤتمره الخامس، مطلع التسعينات، مجلة شهرية باسم «رسالة العراق».
وعندما توصل عدد من الديمقراطيين العراقيين إلى إنشاء التجمع الديمقراطي العراقي في عام 1983 برئاسة الشخصية الوطنية الشيوعية صالح دكلة، أصدر التجمع العدد الأول من جريدة «الغد الديمقراطي» في أبريل العام 1983م.
وفي العام 1990 أطلت نشرة إعلامية بعنوان «الديمقراطي» تعلن عن تشكيل تنظيم سياسي جديد باسم اتحاد الديمقراطيين العراقيين، أما حركة الوفاق الوطني فقد أصدرت جريدة «الوفاق» ثم حصل انشقاق داخل الحركة فأصدر مجموعة صلاح عمر العلي جريدة بالاسم نفسه، بينما أصدرت مجموعة أياد علاوي جريدة «بغداد».
ولعل الجريدة الأبرز التي صدرت في المنفى كانت جريدة «المؤتمر» الناطقة باسم المؤتمر الوطني العراقي الموحد الذي تشكل بعد مؤتمر صلاح الدين، مطلع التسعينات، فضم غالبية الأحزاب والتكتلات والتجمعات السياسية المعارضة، العربية منها والكردية، وصدرت هذه الصحيفة بانتظام.
وكانت تعبر عن وجهة نظر المعارضة العراقية الواسعة، وعمل فيها صحافيون وكتاب متمرسون، مما جعلها من الصحف الناجحة، والأوسع انتشاراً، وأصدر المجلس العراقي الحر برئاسة سعد صالح جبر جريدة «العراق الحر» في أعقاب الغزو العراقي للكويت.
ويستعرض الباحث ظروف الصحافة العراقية التي صدرت في سوريا، البلد المجاور للعراق الذي التجأ إليه الآلاف من العراقيين وراح يعملون في مجالات مختلفة بينها المجال السياسي والإعلامي، فصدرت صحيفة «نداء الرافدين»، و«الغد الديمقراطي»، و«صوت الجماهير».
وأصدر مبدر الويس جريدة «الاشتراكي» الناطقة باسم الحزب الاشتراكي في العراق، أما الحركة الملكية الدستورية التي يترأسها الشريف علي بن الحسن فأصدرت مجلة «الدستورية»، وكان للأكراد الفيليين نشاط لافت في هذا المجال، فأصدروا في لندن صحيفة «نداء الكرب» عام 1993م، وصدرت كذلك صحف في إيران أخذت الطابع الإسلامي، مثل «النبأ»، و«الشهيد»، و«الجهاد»، و«الشهادة».. وسواها.
وكذلك ظهرت بعض الصحف التركمانية والآشورية في العواصم المختلفة، والواقع أن الخوض في الحديث عن صحافة الأحزاب السياسية تأخذ مسارات متشعبة تبعاً للتوجهات السياسية، والانشقاقات، والمصالح.. وقد حاول الباحث أن يقدم صورة مختزلة، مع ملامسة سريعة وعابرة للظروف السياسية التي رافقت صدور هذه الصحيفة أو تلك.
وتُعتبر مجلة «المدى» الفصلية التي أصدرتها مؤسسة «المدى» لصاحبها السياسي العراقي المعروف فخري كريم، من المجلات الثقافية الرائدة التي صدرت في الخارج، ويصفها بطي بأنها «من أرقى ما صدر في العراقية، ليس الساحة العراقية، بل وفي الساحة العربية عموماً».
حيث ساهم في الكتابة فيها ومنذ العدد الأول الذي صدر مطلع عام 1993، أبرز المثقفين والمفكرين العرب والكُرد، وهي استقطبت بسبب سمعتها الطيبة وإخراجها الأنيق وطابعها المهني وتوجهاتها الثقافية العقلانية المعتدلة، أسماء إبداعية معروفة، كما احتضنت، في الوقت ذاته، أصوات أدبية شابة تتلمس طريقها، بخجل، نحو عالم النشر والصحافة، فكانت «المدى» منبراً مفتوحاً لنتاجاتها، وتجاربها الأولى.
وقد كتب الشاعر العراقي سعدي يوسف في أحد أعدادها يقول: «أقصى ما تريده «المدى» هو النجاح في إشاعة ثقافة إبداعية، النجاح في نفح هواء نظيف، أعتقد أن هذا المطمح الأقصى جدير بأن نناضل في سبيله».
وظهرت في المنفى كذلك صحف ومجلات خاصة لا تعبِّر عن وجهة نظر سياسية معينة، وإنما هدفت إلى تكريس ثقافة الحوار، ومن هذه الصحف، صحيفة «الزمان» التي صدرت في لندن عام 1997 لصاحبها سعد البزاز، وجريدة «التخطي» التي أصدرها في دمشق أحمد المهاجر.
و«الشمس» التي صدرت في قبرص وترأس تحريرها حسن العلوي، و«الاتجاه الآخر» التي صدرت في هولندا لصاحبها ورئيس تحريرها مشعان الجبوري، و«المجرشة» وهي أول جريدة هزلية ناقدة تصدر في المنفى، وكذلك ظهرت صحف عراقية خاصة في الولايات المتحدة الأميركية وكندا مثل جريدة «المشرق» و«الإصلاح» وسواهما.
لا يوجد مراجعات