أسفار شيلدهارولد
طرق بيرن إلى كل أنواع الشعر في أسفاره من قصيدة غنائية ورواية مسرحية وملحمة وشعر قصصي، فإنها كلها تمتاز بهذا الطابع الغنائي، لانها دائماً تعبيرات عن خوالج نفسية متناثرة لا تلتئم لتكوين وحدة كاملة متسقة كما تقتضيه طبيعة المسرحية والملحمة على وجه التخصيص؛ ذلك أن الفردية المطلقة تستلزم الغنائية في الشعر، وتحول إذن بين الفنان وبين السرد المتصل.
لذا لا نستطيع أن نعد مسرحياته وملاحمه وقصصه الشعرية قصصاً وملاحم ومسرحيات بالمعنى الصحيح، ففارق هائل بين مسرحية لشكسبير أو موليير أو راسين أو جيته أو شلر، وبين مسرحية لبيرن، في الأولى وحدة وإتساق بين الأجزاء وإفضاء من البداية إلى النهاية وإحكام لوضع الأجزاء ونمو مستمر؛ بينما لا نشاهد في هذه الأنواع من الشعر عند بيرن غير الإنفصال والتمزق والإرتجال والإستطرادات التي تجور بالسرد عن غايته؛ وهذا راجع أيضاً إلى كون هذه الأبنية الأدبية لا يُحكم بناءها إلا صاحبُ العقل المسيطر على العواطف والإنفعالات، أما الذي ينساق وراء أي إنفعال طارئ وتتجاذبه الوجدانات المتضاربة، فلا يقدر على البناء والتركيب وإحكام النسج.
لذا مهر في وصف هذه الشخصيات الأسيانة التي تناضل في الحياة مع أعظم القرى الشريرة، فمن النادر أن تجد شاعراً آخر قد رسم هذا القدر من الشخصيات مثل أتشيلد هارولد ولارا ومنفردة وكونراد (بطل قصة "القرصان") وقابيل، وهذه المهارة إنما ترجع إلى أن هذه الشخصيات المختلفة إنما تمثّل الجوانب المتعددة لشخصيته هو: ففيها أكبر توكيد لذاتيته: فهارولد هو بيرن نفسه، بكل حياته وآماله وأسفاره وتجاربه في الحياة، وعبثاً حاول بيرن أن يتنصل في مقدمة النشيدين الأول والثاني من هذه الهوية بين كليهما؛ إذ سرعان ما وجد القراء في هارولد شخصية بيرن بأكملها، حتى عدّوهما شخصاً واحداً منذ البداية، وحتى اضطر بيرن نفسه إلى الإعتراف بهذا في النهاية، إذ ما لبث في النشيدين الثالث والرابع أن هتك قناعه نهائياً وتبدى سافراً، ولم يعد اسم اتشيلد هارولد غير ذكرى لاسم إستعاره لنفسه، ولارا وكونراد يعبران عن جانب الطموح والنزوع إلى الأعمال والميل إلى المخاطرة في طبيعة بيرن، على الأقل كما حلُم بها أن تكون.
لكن أصدق الشخصيات تعبيراً عن نفسه بأكملها هي شخصية اتشيلد هارولد؛ فهي تصور بيرن الشاب العاكف على اللذات، لكن بدرجة أقل مما حدث لهارولد - الذي ورث اسماً ماجداً وقصراً عتيقاً كان مأوى للفضيلة من قبل، وصار على يديه ملاذاً للعربدة والفجور، فلما بلغ منه الملال، وخيبت آماله التجارب القاسية لأحوال الناس - من نفاق وخداع - فارق قصر أبيه معتزماً التجوال في القارة الأوروبية، غير آسف على شيء من الأشياء ولا على حي من الأحياء الذين خلفهم من ورائه، وركب سفينة أقلّته إلى أسبانيا؛ ثم لما انتهى من رحلته في شبه الجزيرة الإيبرية غادرها إلى بلاد اليونان وألبانيا، وبذا تنتهي هذه الرحلة الأولى، وبالنشيد الثالث تبدأ الرحلة الثانية التي غادر فيها بلاده إلى غير رجعة، أولاً إلى بلجيكا حيث زار مسرح القتال الأخير، وغادر بلجيكا إلى بلاد الرين، حيث وصف مفاتن هذا النهر الجليل، واستمر يتابع النهر في مجراه حتى منابعه في سويسره إلى أن بلغ بحيرة ليمان (بحيرة جنيف) ذات الذكريات الغرامية الشعرية الخالدة.
وأخيراً وصل إلى إيطاليا، فحياها بكلمة أولى، ثم أخذ في زيارة بلادها، فأقام بها طويلاً يشاهد آثارها التي تتحدث بأبلغ عبارة عن أعظم الأمجاد الحربية وأروع الظواهر الدينية؛ وفي خلال هذا كله، كان يُعنى بالبكاء على الديار الخالية والرسوم الدراسة التي تشهد بأن مجداً أو جمالاً أو حقاً كان يقطن هنا، فكاد أن يستعرض أهم أحداث التاريخ: القديم منه والحديث، مستخلصاً منه في كل حين درساً وعبرة.
نبذة المؤلف:
الكون سفر لم يقرأ منه غير الصفحة الأولى من لم ير إلا وطنه، وأنا قد تصفحت منه قدراً وافراً، فوجدته رديئاً تافهاً، ولكن هذا الإمتحان لم يكن عقيماً، فقد كنت أبغضت وطني، ولكن ألوان العنت التي سامتني إياها مختلف الشعوب التي عشت بين ظهارانيها هدتني الى محبة هذا الوطن، فإذا كنت لم أظفر من أسفاري إلا بهذه الفائدة وحدها، فكفى هذا كي لا آسف على ما حمّلتني هذه الأسفار من متاعب ونفقات.
لا يوجد مراجعات