نساء عاشقات
"أنا لست أزعم ابداً أنني ناقد أدبي. لكنني أعرف القذارة حين أشتم رائحتها... ورائحة القذارة تطلع من هذه الرواية لتصل الى أعلى الأعالي". كان هذا التعليق الذي كتبه الصحافي الإنكليزي تشارلز بيلي في أحد أعداد شهر أيلول سبتمبر 1921 من صحيفة"جون بول"واحداً من أول وأعنف ضروب التهجم التي طاولت رواية"نساء عاشقات"للكاتب د.هـ. لورانس. فهذه الرواية،
ومنذ صدورها للمرة الأولى سنة 1920، عرفت بسرعة كيف تثير عالم الأدب وعالم الأخلاق في الوقت نفسه، فهوجمت ورُجمت ولا تزال تهاجم وترجم الى يومنا هذا. كذلك، فإن الفيلم السينمائي الذي اقتبسه عنها المخرج كين راسل، هوجم بعنف لإباحيته البصرية والأخلاقية، يوم عرض سنة 1969. ولم يشفع له عندذاك فوز بطلته غليندا جاكسون بجائزة اوسكار افضل ممثلة. غير ان ما لا بد من قوله هنا هو ان"نساء عاشقات"لم تمنع في شكل جدي، علماً أن طبعتها الأولى كانت أميركية في نيويورك وكانت طبعة مخصصة لمشتركين اكتتبوا للحصول عليها سلفاً... حيث ان الدار الناشرة لم تطرحها مباشرة في السوق لاعتقادها بأنها قد تمنع تبعاً للسجال الأدبي والقانوني الذي كانت أثارته رواية للورانس سابقة عليها هي"قوس قزح".
ويمكن الى هذا اعتبار "نساء عاشقات" استكمالاً للرواية السابقة "قوس قزح"، من حيث انها تتابع هنا حكاية غراميات الأختين اورسولا وغادرون برانغوين، اللتين كان سبق لهما ان رويتا حكاياتهما في الرواية السابقة. اما أحداث الرواية الجديدة فتدور بين إنكلترا ومنطقة البترول الواقعة بين ايطاليا والنمسا. ومنذ الصفحات الأولى لـپ"نساء عاشقات"، نجدنا امام كل من الأختين وقد صار لكل منهما رجل خاص بها. وهذان الرجلان هما رابرت بيركن وجيرالد كريش. ما يعني ان الكاتب تعامل هنا، في نصه هذا، مع أربعة أساليب لفهم الحب وعيشه. ومن ثم انكب في عمق أعماق نصه وفكره على دراسة العلاقة بين الرجل والمرأة، هذه العلاقة التي ندرك لدى قراءتنا كل نصوص لورانس، انها شكلت القضية التي حيرته وعذبته إذ أمضى حياته وهو يحاول فهمها. ومن الواضح ان للعلاقة هذه، في نظر لورانس ثلاثة أبعاد، فهي من ناحية علاقة ذهنية وعلاقة جسدية، ومن ثم علاقة شاملة.
يتبع لورانس هنا علاقات كل من الثنائيين غادرون جيرالد وأورسولا من جرائها، الى مصيره البائس ودماره بالنسبة الى الثنائي الأول، وإلى نوع من التوافق الموقت بالنسبة الى الثنائي الثاني، ونقول الموقت لأن الرواية تنتهي من دون ان توضح لنا ما اذا كان هذا التوافق سيتواصل لاحقاً. أما ديكور الأحداث فهو، في البداية منطقة وسطى في إنكلترا وجوارها تنمو فيها حركة الأحداث وتتطور، وغالباً في شكل يبدو وكأنه في أحيان كثيرة أفلت تماماً من بين يدي المؤلف لتحاول كل شخصية ان تعيش حالتها الخاصة. ونحن هنا، عند هذه الأحداث، خلال العقد الأول من القرن العشرين... امام فتاتين متحررتين وسط مجتمع كان بدأ يعرف انطلاقته. فأورسولا مدّرسة وغادرون فنانة... ويحدث لهما ذات زمن ان تلتقيا بالشابين رابرت وجيرالد اللذين يعيشان في المنطقة نفسها. وبعد ان يحدث اللقاء، تكتشف اورسولا انها مغرمة برابرت تماماً. اما غادرون، فإنها تكون أقل سرعة في الوقوع في الحب... حتى وإن كانت ستشكل ثنائياً مع جيرالد. غير ان علاقة هؤلاء الأربعة لا تقوم على الحب وحده، إذ ها هم يمضون جزءاً كبيراً من وقتهم معاً، وهم يتناقشون في شؤون المجتمع والحب والزواج والسياسة والعلاقة بين الرجل والمرأة. بعد ذلك، وإثر حفل ساهر يقام في منزل جيرالد، تصبح غادرون معلمة لديانا اخت جيرالد. ولاحقاً بعد ذلك يتوفى والد جيرالد، الذي يعيش وعائلته من ملكيته منجم فحم. وهنا على أثر رحيل الأب، يطلب رابرت من أورسولا ان تتزوجه، فتقبل. وفي المقابل تهب العواصف في وجه الثنائي الثاني المؤلف من غادرون وجيرالد. غير ان هذا لا يمنع الأربعة من التوجه الى منطقة الألب لتمضية الإجازة. وهناك يلتقي جيرالد بلوركي، وهي فنانة مشوهة جسدياً بعض الشيء، لكنها مسيطرة عاطفياً... ويرتبط الاثنان بعلاقة كثيفة. وإثر هذا تزيد حدة المشاكل، الى درجة ان جيرالد، إذ تستثيره في آن معاً لوركي وغادرون ناهيك بطبيعته الخاصة التدميرية، يحاول ان يقتل غادرون... وهو إذ يخفق في ذلك، ينسحب هارباً غاضباً نحو الجبال، حيث يسقط من علو شاهق ويموت وحيداً متألماً وسط الثلوج.
> من ناحية الأحداث قد لا تبدو"نساء عاشقات"غنية أو ذات حبكة طريفة. غير ان قوة هذه الرواية لا تكمن هنا، في الحبكة... بل - وكما هي الحال في معظم روايات لورانس - في المناخ الذي رسمه وفي العلاقات التي أبدع في تصويرها. ثم بخاصة في النقاشات الصاخبة التي تدور من حول أمور كانت بدأت تشغل جدياً بال أهل بدايات القرن العشرين. ومن هنا أهمية تلك الصفحات التي يصور لنا لورانس فيها، شخصياته وهي تطرح أسئلتها على ذاتها. وكل هذا في إطار أسئلة وتحليلات فلسفية تكشف لنا في نهاية الأمر عن السمات العميقة في فكر لورانس: الحسية الجسدية منظوراً إليها بصفتها الطريق المؤدي الى المعرفة الحقيقية، التحالف الصوفي الحلولي بين الطبيعة وبين الإرادة السرية الماثلة داخل كل شخص... وبين هذا وذاك، الهوس الأساس الذي كان يشغل بال لورانس ويعذبه في حياته وفي فكره: الهوس بفكرة أن الرجل والمرأة ليسا أكثر من فقرات مشتتة الآن من كلٍ واحد كان في الماضي متوحداً، وأن تفرقهما الآن هو الذي يؤدي الى غياب نقاء العلاقة بينهما ووضوحها. علماً أن العلاقة الجنسية هي كل ما بقي لدينا من ذلك المزيج، أو من ذلك الخلط، حتى. ومن هنا، فإن العبارات الأخيرة في"نساء عاشقات"تأتي لتقول لنا ان الحب تقبله الروح المتفردة والمشتتة، فقط بصفته شرط توازنها ووجودها بالتالي. أما الوحدة الدائمة بين الرجل والمرأة، إذ تقوم على مستوى الشغف المرغوب، فإنها لا تعرف حلولاً وسطى، فهي إما أن تنجح وإما أن تخفق وذلك تبعاً لمستوى الكائنات المعنية نفسها. وانطلاقاً من هذا الاستخلاص لجوهر هذه الرواية العميقة، يصبح محقاً ذلك الناقد الذي رأى، ولكن بعد نصف قرن من صدور هذه الرواية والضجة التي أثارتها، ان القرن العشرين لم يعرف الكثير من الروايات التي تماثل"نساء عاشقات"قيمة وعمقاً في مجال سبر أغوار النفس البشرية من منطلق درس حالتها في جو من العلاقات الثنائية.
كتب دافيد هيربرت لورانس 1885 - 1930،"نساء عاشقات"سنة 1920، لتصبح لاحقاً إحدى أهم رواياته، وهي كانت الخامسة بين أعماله الكثيرة والتي توزعت منذ العام 1911، بين روايات طويلة ومجموعات قصصية ومجموعات شعرية ومسرحيات، إضافة الى عشرات النصوص في النقد الأدبي وعلم النفس وأدب الرحلات. فالحال ان لورانس كتب خلال أقل من عقدين هو الذي مات عن 44 سنة كمّاً هائلاً من النصوص. أما رواياته الأساس والتي صنعت له شهرته الكبرى، فهي إضافة الى"نساء عاشقات":"قوس قزح"وپ"أبناء وعشاق"وپ"الفتاة الضائعة"وپ"الأفعى ذات الريش"وطبعاً"عشيق الليدي تشاترلي".
عن/ الحياة اللندنية
لا يوجد مراجعات