صراع القوى وتوازن الارادات بين الماضي والحاضر
غالبا ما واجهت الإمبراطوريات والدول العظمى المتنازعة ظروفا ملموس تباينها وأحيانا ملكت ثروات هائلة جداً كبير تفاوتها وهي تنتقل من صراع الى صراع اكبر وهو تباين نجم عن الطبيعة التنافسية الموروثة في قوى الدول السياسية وعن تطاير علاقات الدول المتآلفة كل في ائتلافه.
يعرج هذا الكتاب على مناقشة موضوع الصراعات الدولية وتوازن القوى في عصرنا الحالي ساعيا الى تعقب ومن ثم شرح نشوئها بالعودة الى التاريخ القديم والى رؤى فلاسفته ونظريات علمائه التي تعطينا انتاجاتهم الكثيرة في زمنهم تفسيرا لما جرى في الماضي وما يجري في الحاضر. اذ ان الكثير من النظريات التي فسرت بنية العلاقات وأشكال الصراع وسباق التسلح وتوازن القوى ما زالت اساسا فاعلا يعتمده الباحثون في تفسيراتهم للحروب اليوم. فالصراع كما يؤكد المؤلف في مقدمة الكتاب حالة رافقت الإنسان وحددت شكل عالمه، وأرست قواعد التعامل بينه وبين الآخرين في مجتمعه بعد أن بدأت من داخله وتكونت خاصية نفسية من خصائصه حكمت الكثير من سلوكه كفرد متزنا مع نفسه اولا ومع عائلته وعشيرته ثانيا أو على العكس من ذلك يكون عامل هدم عندما يفشل لأسباب غالبا ما تكون نفسية. فالموروث الثقافي والنفسي والأخلاقي لطالما لعبت دورا اساسيا في تحديد صراع الشعوب وقادتها.
يغور د. احسان في سرد احداث الماضي لتحليل الدوافع والمسببات للصراع بدءاً من الفرد وصولا الى الدول والعروش الحاكمة ليصلنا الى نظرة استقرائية للمستقبل يسود فيها الأمن والسلام.
في مقدمة الكتاب يستعرض المؤلف ظاهرة الصراع في اطار زمني يحدده مع نشأة الخليقة ونزول ادم على الأرض. فالصراع كما يؤكد يبدأ من داخل الإنسان،حيث يكون صراعاً بين الخير والشر وبين الحق والباطل،ليرافقه ويحدد شكل عالمه وعلاقته بالآخرين ويمتدد تأثيره ليصبح سُنّة من سنن الحياة، فتنشأ على اساسه دول وحضارات تنهض وتسقط في مجرى طويل للحياة تخترقه فترات هدوء وسلام واتفاقيات أو حروب وتوترات تتباين شدتها وأمدها تبعا لمثيراته في الزمان والمكان المحددين،وهذا ما دفع الكثير من الفلاسفة وعلماء النفس والسياسة لتحديد اشكاله وأنواعه.
بعد المقدمة وعبر ثمانية فصول يبحث المؤلف مشكلة الصراع الدولي والتوازن ويناقش أراء علماء السياسة و الفلاسفة.
الفصل الأول من الكتاب جاء بعنوان (رؤية في الصراع الدولي)استعرض فيه تاريخ الحروب وتطور وتعدد اساليبها وادواتها عبر التاريخ وارتباطها بتطور العلوم والتكنولوجيا، ومن خلال هذا الاستعراض يورد عدد من الأمثلة المستوحية من التاريخ القديم للدلالة على نتائج الحاضر لفهم الصراع الدائر حولنا، وتطور العلاقات في السياسة الدولية للقرن الحادي والعشرين الذي تميز بازدياد عدد الدول وظهور انظمة متعددة ذات رؤى متباينة عن طبيعة الصراع واستخدام القوة. وفي هذا الفصل ايضا يتطرق الى عامل القانون والأخلاق باعتبارهما أحد العوامل الفاعلة التي تحد من استخدام القوة وتلعب دورا مهما في السياسة الدولية ويدلل على رأيه هذا بغزو صدام حسين للكويت ومحاولته ضمها الى العراق حيث أن غالبية الدول رأته عملاً مخلاً بالقانون الدولي ويتعارض مع الأعراف الدولية.
اما الفصل الثاني من الكتاب فقد ورد تحت عنوان (بنية الصراع في القرن العشرين)وقبل ان يخوض في تفاصيل الصراع والحرب يوضح ماهية النظام السياسي الدولي وتطوره عبر الزمن بالرجوع الى القواميس السياسية التي ترى فيه نسقا من وحدات مترابطة بعضها بالبعض الآخر.ولتوضيح ذلك للقارئ وتبسيطه يسوق العديد من الأمثلة المستلة من القرن التاسع عشر والعشرين. وفي هذا السياق يؤكد دوافع انتقال الصراع الى المستوى المسلح يرجع الى تفاعل ثلاثة عوامل تتجسد في الخصائص الفردية للحاكم وشكل نظام الدولة، والنظام السياسي الدولي.
وفي الفصل الثالث (ميزان القوى والحرب العالمية الأولى) يتطرق د. محمد احسان الى ميزان القوى باعتباره واحد من اكثر المصطلحات استعمالاً وأشدها تعقيدا كما ان الباحثين والسياسيين اعتبروه السبب في اندلاع الحرب العالمية الأولى. ولفهم معنى التوازن نتعرف على ماهية القوة والأساليب المباشرة وغير المباشرة لاستعمالها مثل الأساليب العسكرية والقومية والاقتصادية
فالنتائج المباشرة وغير المباشرة لتلك الحرب وكثرة خسائرها بتمزق اجتماعي شديد وموجات واسعة النطاق من الاشمئزاز العالمي، وحملت سياسة توازن القوى مسؤولية حدوثها واعتبر رئيس الولايات المتحدة"وودرو ولسن"سياسات القوى غير اخلاقية لأنها انتهكت الديمقراطية وحق تقرير المصير فدعا الى تنظيم الأمن الدولي وهنا السؤال يطرح نفسه هل المن الدولي حقق السلام؟ يجيبنا المؤلف على هذا السؤال في الفصل الرابع من الكتاب.
الفصل الرابع جاء تحت عنوان (الأمن الجماعي والحرب العالمية الثانية) فمأساة الحرب العالمية الأولى دعت المجتمع الدولي والدول العظمى الى تأسيس منظمات وقواعد تنفذ الاتفاقيات والى تبني دعوة ولسن بإنشاء عصبة الأمم غير ان هذه المنظمة الدولية لم تستطع منع قيام حرب عالمية ثانية كانت ويلاتها اعظم من الحرب الأولى.وتحت عنوان الحتمية في موضوع الحرب الثانية يناقش المؤلف مسألة الحتمية من عدمها والرجوع الى اعتماد مبدأ التضاد (ص 199 – 205) ومبدأ الاسترضاء كسياسة ضرورية في النظام لينتقل الى الفصل الخامس.
ناقش في الفصل الخامس (الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي منذ بدايتها حتى عام 1989مبينا كيف انها اثارت الكثير من الجدل بين المنظرين السياسيين وطرحت الكثير من الأسئلة عن مسؤولية اشعالها وأسبابهارغم انها استمرت لأربعة عقود من غير أن تتحول الى حرب ثالثة وللإحاطة المهتمين بالسياسة الدولية وصراع القوى يجيب المؤلف على ذلك بتطرقه الى موضوع السلاح النووي وأهميته في الحتمية و الردع والسياسة وتوازن الرعب والقضايا الاخلاقية في الردع النووي.
فالقلق من استخدام السلاح النووي وانتشاره لعب دوراً رئيسياً في العديد من الأزمات الدولية في تسعينات القرن الماضي بالإضافة الى انتشار مسببات الرعب غير التقليدي مثل الأسلحة الجرثومية والكيماوية التي يلقي الضوء على اثارها في نهاية الحرب الباردة وسعي الدول النامية لامتلاكها.
ولو انتقلنا الى الفصل السادس (التدخل في الصراعات الإقليمية) ويشير في هذا الفصل الى الفعل الخارجي لدولة او مجموعة من الدول موجه الى اخرى ذات سيادة بمستوى يؤثر في شؤونها الداخلية. وبعد ان يعرفنا بمفهوم التدخل والسيادة وتقرير المصير والمقاضاة في القانون الدولي يربط هذه التعريفات والمفاهيم بمنطقة الشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي وغزو صدام للكويت وما بعد حرب الخليج الثانية ليخرج بمحصلة لما بعد حرب الخليج الثانية على المستوى الإقليمي والدولي وان قضايا مثل الدين والطائفية والقومية والتخلف الاقتصادي وضغوط النمو السكاني ستبقى تعمل على جعل منطقة الشرق الأوسط منطقة ساخنة ومن اكثر مناطق العالم استعداداً للتفجير.
اما الفصل السابع من الكتاب (مفهوم القوة في الاتكال المتبادل) يطرح فيه ويناقش قضايا تتعلق بالاقتصاد والنفط وعلاقتهما بصراع القوى وميزانه، محاولاً أن يسجل فيه رؤيته الخاصة وبها ينهي بحثه عن صراع القوى وتوازن الإيرادات خلال القرون الماضية ليدخلنا الى الألفية الثالثة ويسجل رؤيته الخاصة مستندا على الماضي والواقع الذي نعيشه اليوم في الفصل الثامن.
في الفصل الثامن (نظرة الى المستقبل من زوايا الصراع) يتطرق الى عزم زعماء ورؤساء وملوك دول العالم في مستهل الألفية الثالثة على حل مشاكل البشرية وتحسين اوضاعهم الاقتصادية والصحية والثقافية في القمة العالمية في ايلول عام 2000. ومن خلال مناقشته لقرارات هذه القمة يؤكد بأنه لابد من تعاون دولي وعمل جماعي مشترك، وعلى الدول العظمى وخاصة الولايات المتحدة أن تبذل جهدا استثنائيا ينسجم مع سيادتها خاصة وان العالم الثنائي القطبين قد انتهى عمليا وان الاتجاه يسير نحو عالم متعدد الأقطاب اقتصاديا، وهنا يشير الى رؤى الليبراليون بالدعوة الى نظام دولي يقوم على توازن القوى بين الدول مضيفا عليها رؤيته الخاصة ان العالم الجديد سوف لن يكون مرتبا، وعلينا التعايش معه.
وبنهاية هذا الفصل يكون د. احسان قد انهى هذا الكتاب القيم وعرفنا بماهية الصراع وتوازن القوى وفق المنهج العلمي واثبت لنا بان التاريخ رفيق الحرب وأخيرا يمكننا القول بأن الكتاب يمكن اعتباره احدى الكتب المتميزة في علم السياسة وان طلاب الجامعة والدراسات العليا في اقسام الاعلام والعلوم السياسية والقانون بحاجة ماسة له لما تضمنه من معلومات قيمة وتحليل علمي.
لا يوجد مراجعات