يملكون ولا يملكون
الفرق الشاسع في التناقض ما بين أناس يصل بهم ترف الحياة الناعمة إلى الدرك الأسفل من الانحلال الخلقي، وآخرون يدفعهم فقرهم الى سلوك شتى الوسائل المنحرفة لكسب عيشهم كالسرقة وحتى القتل.. احداث نتابعها في رواية (يملكون ولا يملكون) للروائي إرنست همنغواي والصادرة عن دار (المدى) للثقافة والنشر بترجمة توفيق الأسدي.. تتحدث الرواية عن مكابدات الربان البحري هاري مورغان الذي يعمل على قارب في تهريب البضائع بين كوبا وفلوريدا،
وهو شخص طيب أرغمته ظروفه القاسية للعمل في السوق السوداء ليستطع تسيير أموره وتوفير لقمة الخبز لأسرته، وبينما كان يأمل خيراً في الحصول على مبلغ ثمانمئة وخمسة وعشرين دولاراً دين له بذمة جونسن الذي استأجر قاربه اثناء زيارته للمدينة ونزوله في احد فنادقها، يأتيه خبر رحيله في وقت اغلقت فيه القنصلية أبوابها، والطائرة صارت في ميامي فلم يستطع حتى ارسال برقية، فيلوم نفسه بأنه اخطأ وكان عليه ان يتوقع ذلك:"وهكذا حدث ان اصبت بالافلاس، لقد خسرت مبلغ خمسمئة وثلاثين دولاراً لقاء استئجار القارب، والعدة التي لم استطع شراء بدل عنها حتى بثلاثمئة وخمسين دولاراً أخرى. وقبل يوم رفضت مبلغ ثلاثة آلاف دولار لقاء نقل ثلاث غرباء للنزول في جزر كيز واخراجهم من البلاد. الآن لا استطيع تهريب المشروبات لأني لا املك النقود لشرائها. فلتنزل عليّ اللعنة لو كنت سأعود الى البيت مفلساً وأبقى جائعاً صيفاً كاملاً في تلك البلدة. وعلاوة على ذلك فانا لدي اسرة اعيلها. ياللجحيم لم يكن معي من النقود ما يكفي لملء القارب بالبنزين".
من خلال ذلك يضعنا الكاتب بين وجهات نظر لشخصيات متنوعة في أوقات مختلفة حيث يبدأ بصيغة المتكلم من وجهة نظر بطل الرواية هاري ثم ينتقل لصيغة الغائب العالم بكل ما يحدث وبلمحات سريعة ينقلنا الكاتب إلى عالم من يملكون المأكولات الفاخرة والمشروبات المثلجة التي يقدمها الخدم بأطباق من فضة، كما يأخذنا إلى غرف نومهم، فبعضهم وصل به الحال الى اقصى درجات الترف والبذخ، وبعضهم جافاه النوم لازدحام الذكريات المؤلمة في ذهنه، ذكريات الناس الذين أساء إليهم وجردهم من أموالهم وبيوتهم ودفعهم إلى الانتحار بشتى الوسائل.. وهكذا تستمر الاحداث فبعد ان ينجح جونسن بخداع هاري ويهرب من دون أن يدفع أجرة القارب يتخذ هاري قراراً حاسماً بتهريب المهاجرين الصينيين إلى فلوريدا ليتدبر أمور حياته وتعويض خسارته، إلى جانب نقل أنواع مختلفة من الشحنات غير القانونية بين كوبا وفلوريدا في شكل منتظم مثل الثوار الكوبيين ليعيل أسرته، ولكن هذه المغامرات التي اضطرته ظروفه القاسية اليها لم تمر بسلام، فقد كلفته حياته بعد ان فقد يده وقاربه في تبادل لإطلاق النار بينما كان يهرب الكحول إلى جزيرة في فلوريدا اسمها كي ويست، فالذين يملكون هم أصحاب اليخوت الفاخرة والمعامل الكبيرة والفيلات الفخمة، الذين يستغلون من لا يملكون أولئك الذين يكدحون مقابل دولارات قليلة لا تكاد تكفي لسد الرمق، وهاهو مورغان الآن يزحف على يديه وركبتيه ليطفئ محرك القارب ضعيفاً منهكاً ينحني نحو الامام وذراعه المقطوعة تستند الى البوصلة، يتوقف المحرك عن الدوران ويهدأ المكان من الضجيج، فلم يعد يسمع غير صوت ارتطام الموج بجوانب القارب، ولم يكن امامه سوى ان يتمدد تحت شعاع القمر.. تصل زوجته قبل ان ينقل الى المستشفى فتجده في حالة غيبوبة.. ثم يخبرها الطبيب بانه مات من دون عذاب لأنه عانى كثيراً، حتى انه لم يفق من غيبوبته.. وعندها تشهد له زوجته بانه كان طيباً جداً معها، وشخصاً يمكن الاعتماد عليه. فتقول:"لم اكن اشغل فكري بمسألة النقود، ولكن الآن ذهب كل شيء".. وفي الخارج تتارجح اغصان الاشجار تحت ريح الشمال الخفيفة والسياح الاغنياء يمرحون على دراجاتهم ضاحكين. وهناك طاووس يزعق عالياً وسط فناء منزل كبير يقع على الجهة المقابلة للشارع. تتأمل الزوجة ذلك وهي تردد مع نفسها:"لم استطع الذهاب الى الجنازة، والناس لا يفهمون ذلك ولا يعرفون بما اشعر، انا اعرف جيداً ان الرجال الحقيقيون نادرون، انهم لا يعرفونهم، واذا عشت الآن عشرين عاماً فما الذي سافعله؟.
الكاتب في سطور
ولد الكاتب الأميركي أرنست همنغواي في 21 تموز عام 1899 بمدينة اوك بارك من اسرة برجوازية مثقفة.. بدأ حياته الصحفية في جريدة (كونساس سيتي) بعد تجارب حياتية اكتسبها من خلال نشاطه الصحفي، إذ مكنه هذا العمل من تغطية أحداث هامة اثناء تنقله في البلدان الأوربية.. شارك في الحرب العالمية الثانية، وانغمر الى جانب الجمهوريين في الحرب الأهلية الاسبانية، وقضى شطراً طويلاً من حياته في كوبا.. يعد همنغواي من اشهر الروائيين الذين يتمتعون بشخصية أدبية نافذة وخيال خصب وتحليل عميق ووصف دقيق، وكان له اثر كبير في الأدب الروائي العالمي خلال النصف الأول من القرن العشرين.. عاش حياة مفعة بالنشاط الانساني والتدفق الابداعي، وحين احس بتراجع ذلك النشاط وضع حداً لحياته بالانتحار.. وهو الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 1954.
لا يوجد مراجعات