مقدمة في التاريخ الآخر
يلاحظ أن عملية نشوء علم التاريخ وتطوره عند العرب قد استغرقت فترة طويلة نسبياً من الزمن، وأن نموه على النحو الذي وصل لم يكتمل إلا في أواسط القرن الهجري الثالث، وخلال تلك الفترة شاركت في عملية النمو تلك عناصر ذات منابت مختلفة، وكان تأثير بعضها قوياً إلى درجة ما زال بالإمكان تتبع آثارها بوضوح على ملامح الرواية التاريخية ككل.
وفي الوقت نفسه فقد أثرت على الصيغة النهائية لتلك الملامح عوامل ذات جذور حضارية عميقة تمسّ صلب البنية الإجتماعية والسياسية والعربية في المنطقة، وترتبط بشكل وثيق بتطور العقيدة الإسلامية ومرتكزاتها الأساسية: القرآن الكريم والسنّة الشريفة.
يضاف إلى ذلك بالطبع بعض الجوانب الفنية لتطور الحضارة العربية - الإسلامية كالكتابة وفقط اللغة وصناعة الورق... وخلافاً للمنحى الذي اتبعته أكثر الدراسات النقدية الحديثة يمكن القول أن أكثر معوقات النمو العلمي للرواية التاريخية الإسلامية لا تمكن في خيارات فنية واعية لهذا الراوي أو ذلك المحدث بقدر ما تشكل إمتدادات عضوية لبعض خصائص المركبات والعناصر الأساسية لتلك الرواية.
ضمن هذه الرؤية تأتي مقاربات المؤلف في دراسته للرواية التاريخية لصدر الإسلام، وأما منهجيته، فخلافاً لما هو متبع عند أكثر الباحثين، فإن المؤلف لم يسع وعند عودته إلى المصادر لتتبع الرواية التاريخية في مظانّها، لم يسع وراء التكرار والإنتظام النموذجي في الرواية فحسب، كما أنه لم يوجه طاقته وإهتمامه أكثر مما يجدر نحو ربط هذا النموذج بهذه المدرسة أو تلك من مدارس الحديث.
ذلك لأن هدفه الأساسي من هذه الدراسة هو الإسهام في كشف عن بعض الجوانب من تاريخ صدر الإسلام وإعادة ترتيب عناصره وليس عرض تطور علم الحديث، لذلك كان التركيز الأكبر هو البحث عن النتوءات والفجوات في متن الرواية، والتوقف عندها وإزالة ما علق بها من إضافات متأخرة وتقدير مدى ما تمّ حكّه منها في أثناء عملية صقلها بإنتقالها من راوٍ إلى آخر، وكذلك تقدير البعد الزمني لوقفها وتحديد محيطها ومناخها المذهبي، ثم حفظ ذلك جانباً والإنتباه إلى ما ينقص من ذلك أو يزاد عليه في الصيغ الأخرى لذات الرواية، وإصاغة السمع أكثر من ذلك لوقع مقطوعات وفقرات صوتية أخرى من ذات المادة قد تكون قد تناثرت في روايات أخرى مع إحتفاظها برائحة ذات المعركة أو أنها تذكر بالملامح أو الأقوال المنسوبة لهذا الأمير أو ذاك الخليفة.
لا يوجد مراجعات