كيف أصبحنا مكروهين إلى هذا الحد
يطلعك غور فيدال في كتابه "حرب دائمة من أجل سلام دائم: كيف أصبحنا مكروهين إلى هذا الحد" بمقدمة تختصر كل ما يمكن أن يقال حول الواقع المأساوي الذي يعيشه العالم في ظل سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، ذاك مهم، ولكن الأهم من ذلك كون ما قيل هو صادر من أمريكي يعاني على الطرف الآخر، من تبعات سياسات بلاده إذ يقول: "هناك قانون فيزيائي وهو أنه ما من فعل في الطبيعة دون رد فعل. ويظهر أن هذا القانون صحيح أيضاً في التاريخ، الذي هو مجال الطبيعة الإنسانية. في السنوات الست الماضية سيبقى تأريخان عرضة للتذكر أطول من المعتاد في الولايات المتحدة هما 19 نيسان/أبريل 1995، حين أقدم جندي مشاة يحمل كثيراً من الأوسمة على صدره اسمه تيموثي ماكفاي على نسف المبنى الفيدرالي في مدينة أوكلاهوما، وقتل 198 شخصاً ما بين رجل وامرأة وطفل. لماذا؟ قال لنا ماكفاي، الذي وصفه حكامنا ووسائل إعلامنا بأنه وحش سادي مجنون، بأنه فعل من أفعال المقاومة. والتاريخ الثاني هو 11 أيلول/سبتمبر 2001، حين دمر أسامة بن لادن ومنظمته الموسومة الإرهابية الأصولية، منهاتن والبنتاغون. وقد برمجت عصبة البنتاغون المسؤولة عن إدارة شؤوننا رئيسها على إخبارنا بأن بن لادن "شرير" امتلأ بالحس والضغينة على ما لدينا من خير وثروة وحرية".
ويتابع فيدال قائلاً: "أنه لا معنى لهذا التفسير سوى أنه يؤكد على كون حكامنا ظلوا لأكثر من نصف قرن، يمتنعون عن قول حقيقة أي شيء بخصوص كل ما فعلته حكومتنا بالشعوب الأخرى، فضلاً عن شعوبنا نفسها، كما في حالة ماكفاي. وكل ما بقي لنا هو الأغلفة الصقلية اللماعة من "التايم" و"النيوز ويك"، حيث تطلع علينا منها صور الوحوش الضارية، والشرر يتطاير من أعينها، في حين صارت "النيورك تايمز"، وجوقتها من المقلدين تنسج القصص المحبوكة عن أسامة المجنون، وماكفاي الوضيع، وهكذا أقنعت أكثر الأمريكيين أنه ما من أحد، سوى ثلة من الطائشين، يجرؤ على مهاجمة أمة ترى نفسها أقرب إلى الكمال من أي مجتمع إنساني آخر، أما أن تكون عصبتنا الحاكمة هي التي استنفرت ماكفاي (ذلك البطل الطالع من قلب أمريكا في حرب الخليج) وأسامة، الذي يمكن أن يكون مسلحاً مدافعاً عن الإيمان، فأمر لم يهتم به أحد إطلاقاً".
ويضيف فيدال قائلاً: "حتى الآن وعلى طول الأزمنة الحديثة، كانت أفعال الإرهاب الفردية سلاح الضعفاء والمقهورين، في حين أن إرهاب الدولة والإرهاب الاقتصادي كان سلاح الأقوياء. لقد أصبحت أمريكا منذ عام 1947، الرائد الأول في ارتكاب الدولة "الوقائي"، البالغ الخفاء، في العالم الثالث حصراً. وفضلاً عن حالات التخريب الاستثنائي والإطاحة بالحكومات في السباق مع الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة، عادت واشنطن إلى الاغتيالات السياسية، وعصابات الموت بالواسطة، والمحاربين دفاعاً عن الحرية في الظاهر (وابن لادن مثال على ذلك). كانت العقل الموجه لقتل لومومبا والنيدي، وحاولت عبثاً أن تحكم بالموت على كاسترو والقذافي وصدام حسين، واستعملت الفيتو ليس فقط ضد خروق إسرائيل للاتفاقات الدولية، بل أيضاً ضد ممارستها لإرهاب الدولة "الوقائي"."
بمثل هذه الكلمات يختصر غور فيدال الاستراتيجية الأمريكية في سياساتها الدولية والتي تضع نصب أعينها: "حرب دائمة من أجل سلام دائم" وحتى هذا الشعار الذي وضعه فيدال هو من باب السخرية، لأن ما أورده من حقائق موثقة في كتابه هذا لا يدعو أبداً للشك في أن أمريكا تسعى إلى هيمنة دائمة من خلال حرب دائمة على شعوب الأرض قاطبة.
ولذا من المفيد القول بأن هذا الكتاب جدير بالقراءة وجدير بالتوقف عند مقاطعه وتفاصيله الموثقة ملياً، للوقوف على حقائق هي وراء العمليات التكتيكية والعسكرية الأمريكية الماضية والحالية ضد مثلاً: كوسفو، ألبانيا، البوسنة صربيا، البحر الأدرياتيكي، العراق، السعودية، الكويت، شمال غرب آسيا، أمريكا الوسطى، كاليفورنيا، الاتحاد السوفييتي وهكذا... ويشير فيدال إلى أن مقالة له عن 11 أيلول/سبتمبر نشرت بالإيطالية في كتاب مشابه لهذا الكتاب، والمذهل أنها حصلت على جائزة أفضل المبيعات، وترجمت إلى حفنة من اللغات الأخرى، ومع كل من ابن لادن وماكفاي، يقول فيدال بأن من المفيد وصف الاستفزازات المتعددة من جانب الولايات المتحدة بأنها هي التي أفضت بهما إلى ارتكاب هذه الأفعال الشنيعة.
لا يوجد مراجعات