فَريجُ المُرَر
"ضحكت أيضاً، سرنا في طريق ضيقة شبه مظلمة إلا من أضواء لا فتات باهتة فوق بعض المحال المغلقة، كنت أسير بينهما هي على يساري وهو على يميني، كان يتحدث طول الوقت عن فُريج المرُّر بشجن، أسماء الطرقات التي تبدلت، أصحاب البنايات الذين باعوا إرثهم، المحلات، الأراضي الفضاء القليلة التي تستخدم كواقف للسيارات، بينما كنا صامتين، وكان بين وقت وآخر يشيح ببصره إلى الأعلى ليبلغ نهايات الأبنية التي تلاشت في القمة، وكأنما يَزنُ بعينيه الفارق الذي أحدثته الهجران من شرق وجنوب العالم في هذا الحيّ العتيق، وهو يئن تحت وطأة الزحام، وتلاحم الأبنية وتعدد الألسن... سألته عن أصل اسم هذا الحي، نظر إلى الأعلى مجدداً وأمسك بمعصمي حتى أسمعه بإنتباه كامل...
بإختصار "فُريج المُرَرْ" تعني حي قبائل المرُر، هنا ولدت أنا وهنا عشت أيام طفولتي الأولى وجزءاً من شبابي... ومن هم المُرَر؟ تنهد، وهو لا يزال معلقاً بتأمل المكان وساكنيه الجدد... المرُر أصل هذا الحي، والمُرَر بإختصار قبيلة عربية وعريقة،...
تدخل في ملف بني ياس الذي يحكم هذه الصحراء بعلائق الدم والنسب والمصاهرة، ونخوتهم هي أولاد مروان - أظن أني قرأت في كتب التاريخ والأنساب عن أكثر من مُرّة في قبائل العرب، وعن أكثر من موطن لها في هذه البوادي.... صحيح، وربما أغلبها تشابه في الأسماء، لكن أغلب بني مرة هم من البدو سكان الصحراء، لكنّ المُرَرْ معظمهم أهل بحر... وهم منتشرون في بعض الإمارات مثل أبو ظبي ودبي والشارقة، والمرُر الذين عاشوا في هذا الحي، تنقلوا في مناطق عديدة... إلى أن استقروا في هذا المكان أيام المرحوم الشيخ سعيد بن مكتوم آل مكتوم الذي كان يأنس كثيراً لجوارهم... ثم حين صرنا عند عتبات المطعم، ضحك من قلبه وقال بلسانه البدوي: الحين فرج المرُر صار وكأنه سوق "ميركاتو" اللي في أديس أبابا... أنا ابن الحي صوت اليوم غريباً فيه لولا أني أتكلم الأمهرية كان الحبشيات باعوني واشتروني فيه مثل التيس الفحل.
ضحكنا، وطوال العشاء وبعده، لم يتوقف المري عن الحديث... لكن إيلسا لم تكن نتكلم إلا نادراً، نظراتها الودودة نحوي، كانت وحدها تقول الكثير، كنت أظنها مثل كل الفتيات اللائي أراهن في هذا السوق كل يوم، ربما كان موقفاً متعالياً أكثر منه إنطباعاً، أو فهماً لحقيقتها...
إيلسا الوحيدة - حتى الآن - التي قالت لي "لِمَ أنت هنا؟" قد يبدو السؤال عادياً، لكن على بساطة الظاهرة تبدو الإجابة معقدة، ومولدة للكثير من الأسئلة التي تزعجني، ربما شعرت أنني في المكان الخطأ وفقاً لصورةٍ حسنة الظن رسمتها لي، لا أعرف!... لكن تصرفاتها توحي بأنني مثير للفضول لسبب أو لآخر وأنني أخفي حكايةً ما خلف هذا القناع الصارم الذي كثيراً ما ذكرتني به، كانت تقترب أكثر في كل مرة، لكنه إقتراب حذر أثار فضولي نحوها أكثر مما هي مستثارة نحوي: إيلسا فتاة مختلفة؟... فأنا أجهل أشياء كثيرة عنها، مهمة وضرورية... تحدثنا طويلاً في الهاتف في أمور كثيرة كاشفة، هكذا وصفتها، لم أطلب منها ذلك، لكن حدث أمرٌ غريب في المقهى ذات مساء، جعلني أغادره منزعجاً على غير عادتي، فاتصلت بي منتصف الليل لتحدثني عن أحباشها، حديثاً لم يخطر على بالي وكأنما تعتذر لهم...
لن تفهم هؤلاء الأحباش ما لم تكن منهم، أعجب ما فيهم أنهم زاهدون في إنسانيتهم من أجل شيء غامض لست متأكدة من حقيقته!... ما الذي يستحق أن يبذل الإنسان من أجله أغلى ما يملك، إنسانيته؟ الأحباش يبحثون عن لحظة بعيدة في خيالهم، يستقصون كل شيء، الزمن، والتاريخ والجغرافيا للإمساك بها، صدقني لن تفهم معنى أن تمشي إلى الوراء بقصد أن تتقدم إلى الإمام، ما لم تكن حبشياً! كيف؟ صمت قليلاً ثم تابعت... ممكن، إذا فهمت أن الزهد في الأشياء يعني السعي لإمتلاكها، بالضرورة، نفكر هكذا أحياناً! على الدوام كنت أعتبر الحبشة جزءاً من محيط حيوي واسع، أنتمي إليه بالضرورة وأتحرك فيه، وإن لم تكن في متناول وعيي بالقدر الكافي، قرأت عنها أيضاً وسمعت من آخرين، بل والتقيت في حياتي ببعض أهلها، لكن لم أسمع بهذا من قبل، ولم يخطر على بالي... هل تغير الغربة ضحاياها هذا الحدّ؟...
تنهدت طويلاً، ثم قالت جملة تمنّت - لاحقاً - لو أنها لم تقلها... في هذه المدينة بالذات، إذا قالت لك الحبشية أنها لا تريد منك شيئاً فاعلم أنها تريد كل شيء! "هل تغير الغربة ضحاياها إلى هذا الحدّ؟... سؤال تتردد أصداءه وبقسوة على مدى تسلسل أحداث فريج المُرر... فرمزية هذا السؤال تُقحم القارئ في موضوع موجع... الغربة... إلى أن يتناهى معناها في ذهنه إلى غربة الإنسان عن نفسه...
يدفع الروائي بشخصياته التي تمثل بأدوارها حال أناس قطنوا بقعة جغرافية مكانية تتوسّد منطقة في مناطق دبي القديمة... يمضي القارئ مع الطيب الذي مثل شخصية الإنسان السوداني الذي قدره أن يعيش غربة... بل غربتان هما؛ غربته عن بلاده وغربته عن نفسه... فغربة المكان تأبى وبقسوتها إلا أن تضفي عليه ملامح غريبة عنه... يشاركه في هذه المعاناة شخصية أنثوية هي إيلسا التي انغمست في قذارات فريج المرر، وهي المثقفة والحاصلة على شهادات عالية والتي كانت أحلامها تفوق مكانها وزمانها، حيث ضاقا بها وقذفا بها بعيداً عن بلاها "الحبشة" للبحث عن مورد رزقها في دبي. تشاء ظروفها أن تلتقي بالطيب، ثم لتغيب عنه، وليجتمع بها صدفة على شاطئ البحر وعكاز بيدها تعينها مع ساقٍ معدنية للمضي في مشوار حياتها... حياة انتهت عند شاطئ غربةٍ سلبت منها أحلى ما لديها ولم تبق منها سوى ساقٍ لفظها البحر بعد أن عانق صاحبتها عناقاً أبدياً.
لا يوجد مراجعات