صمت الآلهة
"بعد أن ظلت لوحدها؛ غادرت كلاريسا غراي الأريكة وانصرفت نحو المكتبة التي كانت تحتل جزءاً من الجدار، بعد لحظة تردد، مدت يدها نحو كتاب، كابحة على الفور صرخة ألم.
كم كانت تشعر بالألم يارب!... إعتلال مزمن في المفاصل ذو مظهر مستفحل، بهذه العبارات الغريبة أخبرها الطبيب بمرضها... ومقابل مجهود آخر توصلت كلاريسا إلى ضم أصابعها حول الكتاب وعادت إلى مكانها على الأريكة، وبستان آشبيري...
جريمة قتل في لامبير هاوس... ها قد مر وقت طويل على آخر عهد لها استسلمت فيه لقراءة رواية بوليسية... كانت ترى أن هذا الجيل الجديد من الكتاب يفتقد للخيال وعلى الأخص للتبصر... منذ الصفحات الأولى تنكشف للعيان هوية القاتل صبيانية.
لا، إذا كانت قد عزمت على شراء آشبيري، فذلك فقط بسبب ذلك النقد الذي نشر أسبوعاً من قبل الستورنوي غازيت حيث تم تشبيه المؤلف بالعظيمة... كلاريسا غراي. لبست نظاريتها، واستقرت على نحو وثير وشرعت في القراءة. ساعة بعد ذلك، لم يكن الإفتتان المأمول في الموعد، أن يتجاسروا على مقارنة هذه الكتابة بالتي لها؟...
هذا اللغز الخالي من كل غرابة، هذه الشخصيات الباهتة بأبطال كلاريسا غراي؟ التجرؤ على عقد موازنة هذا المحقق القزم بالعملاق آرشي، ودنبار؟ مهما يكن! لتقديم مثل هذه المقاربات، لا بد أن ناقد ستورنوي غازيت فاقد للأهلية شأن ويستان آشبيري ذاك! بدت إيماءة عجب من شفتي السيدة العجوز.
وقت الساعة الحائطية ثماني مرات، حان الوقت لتعدّ عشاءها، نهضت، وتوجهت صوب المطبخ، جالسة في فراشها، عنقها مسند إلى وسادتين رخوتين، أعادت قراءة سونيتية جون كينيس بالجهر، الجمال في طبيعته الخالصة، آه! لو أمكنها الإستسلام لشففها الآخر: الشعر... ستكون شاعرة في حياة أخرى، وضعت الديوان على منضدة سريرها، أطفأت النور ورفعت اللحاق على مستوى ذقنها.
أطبقت جفنيها وركزت على صورة سكارليت أوهارا... صدى صرير باب يخرق الصمت فجأة... فزعت... المنبه يشير إلى الواحدة وخمس وأربعين دقيقة. لصّ؟... في بيتها؟... هل ذلك ممكن؟... لا بد أنها كانت تحمل... انتظرتْ، وتحسبت من أحداث أي جلبة وكأنها تخش إضافة الدخيل.
يُسمع وقع الباب من جديد، بعنف أشدّ هذه المرة، لم بعد هناك أي شك ممكن، هناك شخص ما بالبيت، والقلب يرجف، لبست قميص النوم بسرعة وخرجت بحذر، توقفت لحظة، ثم هبطت الدرجات المؤدية إلى الطابق السفلي بأسرع ما يسمح به كبر سنها، حينما وصلت أسفل السلم، تلمّست لبضع لحظات علّها تعثر على الواصل... هل هي رعشة يدها؟… لم تتذكر أبداً أن استغرق الأمر للوصول إلى الزر الصغير المشع كل تلك المدة، كأنها أبدية.
وأخيراً غمر النور الصالون - من هناك؟... سألت بصوت تلوح منه الصرامة، لكنه لا يكاد يخفي حيرتها... لا نامة... ما خلا مدّ وجزر الأمواج المعذّب وهمس الريح الواهنة... من هناك؟... كانت اللهجة أقل يقيناً... مترددة، سارت بضع خطوات... حنبذاك رأته... رجل ممرد سوية الأرض قرب باب المدخل، الآن تستطيع سماع زفراته... وهي تدنو منه، كبحت رجفة: هجم هواء الليل الصقيعي على الحجرة، رغم أنها كانت قد أغلقت جميع النوافذ قبل إنصرافها إلى غرفتها.
كانت متأكدة من ذلك جيداً، همهمت: ما... ماذا تصنع هنا؟... كانت حنجرة الرجل مذبوحة بالتحديد أسفل عقدة الحنجور... دمه يسيل منقذفاً على نحو متقطع، مخلفاً بركة إرجوانيه على السجادة، رأت عبر الغبش بأنه رأسه كان أقرعاً تقريباً، ووجهه كامد اللون عيناه جافظتان، والجبين القصير تخترقه ندبة قديمة العهد، طولها بضع سنتيمترات... مكابرة هلعها وإشمئزازها، جثت بالقرب منه، لابد أنه استشعر حضورها؛ لأن الحياة دبت في شفتيه.
حاول النطق بكلمة ولم يسعه ذلك... بسرعة! طلب سيارة الإسعاف، أرادت أن تتهض، لكن يد الرجل أمسكت معصمها، ليست ملامسة هذه اليد ما أصابها بالذعر، بل قوته العجيبة، لم يسبق لها تخيل أن مخلوقاً على شفير الموت يستطيع إمتلاك كل ذلك القدر من الطاقة، تحركت شفتا المحتضر مجدداً، على وجهه ترتسم الآن عبارة التوسل، كلا... التماس. غمغمت: سوف... اهدأ... سوف اتصل بالهاتف، سيارة إسعاف... سعت إلى التخلص منه؛ هذه المرة أيضاً أمسك بها... غريق... كان له ردّ فعل الغرقى الذين يحاولون التشبت حتى برؤوس الأمواج... ألحّت: أرجوك، وبمثابة جواب... نقل يده الأخرى نحو جيب سترته وأخرج منه مستطيلاً كرتونياً صغيراً ناولها إيها بإيماءة متوسلة، أمسكته دون سعي منها للفهم، حينها فحسب أرخى قبضته وأمكنها الإندفاع صوب الهاتف - بما أني أقول لك إن لدي جثة في الصالون!... يجب أن تصدقني.... حسناً، مسز غراي... هدئي من روعك، نحن قادمون...
حينما رن جرس باب المدخل ريخال المرء أنه عويل نهاية العالم، باب المدخل... لبثت مكانها، كلا ذلك غير ممكن ألم يعد هناك من جسد، ولا جثة! لا أثر للدم على زاوية السجادة التي كانت ما تزال ملطخة به، بضع دقائق من ذي قبل "تبقى الغيبيات ذلك الهاجس الذي يعصف في فكر الإنسان وذاته... يحاول لاهثاً إستدراجها... تصورها... وإجراء الإسقاطات عليها... بين رؤية معاصرة... ورؤية غابرة... ولكن عبثاً ما يصل إلى ما يرضي غيره... هذا إذا أرضاه... الغيبيات بكل ما تحمله هذه الكلمات من معاني... الوجود... الخالق... وحكمه في خلقه... أنبياؤه ورسائلهم السماوية... الخير... والشر... وما وراءهما... الإنسان وقدره... قضايا حملها الروائي في وعيه... أرّقته كثيراً... نأى كاهله عن حملها... فدفع بها خياله لتكون مادة روايته هذه... مسقتطفاً الزمان والمكان عن أسئلة تحفز في ذهنه عميقاً من خلال دراما وكأنها بوليسية... تحمل الكثير من المفاجآت... وليس ذلك بمستغرب إذ أن ستارة هذه المشاهد الروائية تنفتح على كاتبة ذاع صيتها في مجال الروايات البوليسية... وتنطلق الحكاية من منزل هذه الكاتبة...
يركز الروائي على إستدراج أصحاب الرسائل السماوية الثلاث: الأنبياء عليهم السلام موسى، المسيح، محمد... وهنا مكمن التساؤل... كيف؟!... ولماذا؟!!!... وما غاية الكاتب من وراء كلّ ذلك؟! ربما سيختلف مع الكاتب أناسى... وربما سيتفق معه آخرون... ولكن بين هؤلاء وهؤلاء... وبين الكاتب ليس سوى غيبيات يعجز عن حملها ذاك الإنسان بقدراته المحدودة.
لا يوجد مراجعات